فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسرائيل}:
هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا} [آل عمران: 67] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب.
وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّمًا فيها، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرّمًا عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعامًا حرّمه يعقوب على نفسه.
والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا} [آل عمران: 95].
ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود، جهلًا منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلًا من أحبارهم لعامّتهم، تنفيرًا عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات، فيعدّونها كالحقائق، ويقيمونها ميزانًا للقبول والنّقد، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان، وحسبكم أنّ دينًا عظيمًا وهو دين إبراهيم، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرّمون ذلك.
وتعريف {الطّعام} تعريف الجنس، و{كُلّ} للتنصيص على العموم.
وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عِرق النَّسَا الَّذِي على الفخذ، وقد قيل: أنه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبأنها، فقيل: إنّ ذلك على وجه النذر، وقيل: إنّ الأطبَّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنَّه كان مبتلى بوجع نَساه، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا.
وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام: ظاهر الآية أنه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه، بل من تلقاء نفسه، فبعضه أراد به تقرّبًا إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيِّبات المشتهاة، وهذا من جهاد النَّفس، وهو من مقامات الزّاهدين، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم.
وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشّريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له، ولم يدع إليه غيرَه، ولعلّ أبناء يعقوب تأسَّوا بأبيهم فيما حرَّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم.
وقوله: {من قبل أن تنزل التوراة} تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلّق قوله: {من قبل أن تنزل التوراة} بقوله: {حِلًا} لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله: {حلاّ} وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغوًا لولا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.
وقوله: {قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين} أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم: من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق.
والفاء في قوله: {فأتوا} فاء التفريع.
وقوله: {إن كنتم صادقين} شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الَّذي قبله عليه.
والتَّقدير: إن كنتم صادقين فأتوا بالتَّوراة. اهـ.

.قال الجصاص:

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْقِعَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ؛ إذْ كَانَ عِلْمُ الْمَصَالِحِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تعالى وَحْدَهُ؟ قِيلَ: هَذَا جَائِزٌ بِأَنْ يَأْذَنَ الله لَهُ فِيهِ، كَمَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ بِإِذْنِ الله تعالى فَيَكُونُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ حُكْمًا لِلَّهِ تعالى.
وَأيضا فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيُحَرِّمَ جَارِيَتَهُ بِالْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَأْذَنَ الله لَهُ فِي تَحْرِيمِ الطَّعَامِ، إمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الِاجْتِهَادِ.
وَمَا حَرَّمَهُ إسرائيل عَلَى نَفْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أن يكون تَحْرِيمُهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ تَوْقِيفًا مِنْ الله لَهُ فِي إبَاحَةِ التَّحْرِيمِ لَهُ إنْ شَاءَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَهُ صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِإِضَافَةِ الله تعالى التَّحْرِيمَ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَقَالَ: إلَّا مَا حَرَّمَ الله عَلَى بَنِي إسرائيل فَلَمَّا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنه قَدْ كَانَ جَعَلَ إلَيْهِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه جَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ لِفَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. اهـ.

.قال البغوي:

روي أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سُقْمُه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليُحرِّمَنِّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبأنها فحرّمهما.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: هي العروق.
وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النَّسا وكان أصل وجعه فيما روى جُويبر ومقاتل عن الضحاك: أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدًا وأتى بيت المقدس صحيحًا أن يذبح آخرهم فتلقاه مَلك من الملائكة فقال: يا يعقوب أنك رجل قوي فهل لك في الصراع، فعالجه فلم يصرعْ واحدٌ منهما صاحبَه فغمزه المَلك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له: أمَا إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحًا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجًا، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي قول الملَكِ فأتاه الملَكُ وقال: إنما غمزتك للمخرج وقد وُفي نذرُك فلا سبيل لك إلى ولدك.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو: وكان رجلا بطيشًا قويًا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاءً وشدةً وكأن لا ينام بالليل من الوجع، ويبيت وله زقاء، أي: صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقًا ولا طعاما فيه عرق، فحرمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
وروى جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس: لمّا أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن: حرّم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله تعالى: فسأل ربَّه أن يجيز له ذلك فحرمه الله على ولده. اهـ.

.قال ابن كثير:

قال ابن عباس رضي الله عنه حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ الله، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الإسلام». قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ: «فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ» قالوا: أَخْبرْنَا عن أربع خلال: أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ كيف هذا النبي الأمّي في النوم؟ ومن وَليّه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه وقال: «أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسرائيل مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سُقْمُهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ الله مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبأنها» فقالوا: اللهم نعم. قال: «اللهمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ». وقال: «أَنْشُدُكُمْ بِالله الَّذِي لا إله إلا هو، الَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ الله، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأة كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ الله وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ الله». قالوا: نعم. قال: «اللهمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ». وقال: «أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ». قالوا: اللهم نعمْ. قَالَ: «اللهمَّ اشْهَدْ». قالوا: وأنت الآن فحدثنا منْ وليُّك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال: «إِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَث الله نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ». قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك، فعند ذلك قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية [البقرة: 97].
ورواه أحمد أيضا، عن حسين بن محمد، عن عبد الحميد، به.
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْليّ، عن بُكَير بن شهاب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: أقبلت يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: {الله عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]. قال: «هاتوا». قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال: «تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه». قالوا: أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف تُذْكرُ؟ قال: «يَلْتَقِي الماءَان، فإذا علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنثَتْ». قالوا: أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه، قال: «كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا- قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل- فَحَرَّم لُحُومَهَا». قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرَّعد؟ قال: «مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ بِيدِهِ- أو فِي يَدِه- مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ». قالوا: فما هذا الصوت الذي يُسمع؟ قال: «صَوْتُه». قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبُك؟ قال: «جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ». قالوا: جبريل ذاك يَنزل بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا. لو قلتَ: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لَكَانَ، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عطية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {كل الطعام} الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلًا لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي، وقال: إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه، قال: فذلك قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية: الرد على قوم من اليهود قالوا: إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حرامًا في ملة أبينا إبراهيم، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالًا لهم قبل التوراة {إلا ما حرم إسرائيل} في خاصته، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم، وإلى هذا تنحو ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالًا توافق تراجمه، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى: كل الطعام كان حلًا لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه: لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها.
قال الفقيه الإمام: وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى: {حرمنا عليهم} [الأنعام: 146] وقوله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد، وقوله تعالى: {حِلًا} معناه: حلالًا، و{إسرائيل} هو يعقوب، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل: إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: إن هذه تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له: أنه جعل امرأته عليه حرامًا، فقاله ابن عباس: إنها ليس عليك بحرام، فقال الأعرابي: ولم؟ والله تعالى يقول في كتابه {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما حرم إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال: إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقًا، قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضا: إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبأنها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرًا لله تعالى إن شفي، وقيل: هو وجع عرق النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له: يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه فنذر لله نذرًا إن عاقاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبأنها؟ قالوا: اللهم نعم، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبأنها، وهو يحبها، تقربًا إلى الله بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال: موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضا العروق، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر، والله أعلم، وقد روي عن ابن عباس: أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل، وأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى: فإنه أيها اليهود، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم، قال الزجّاج: وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران. اهـ.